ملف الثروات المنهوبة على طاولة المساومات السياسية
بقلم: المهندس وسام الأطرش / جريدة التحرير
"قررت وزيرة الصناعة والطاقة والمناجم نائلة القنجي، إلغاء رخصة البحث عن المحروقات "جنوب رمادة" التي تم تأسيسها بمقتضى قرار من وزير الصناعة والطاقة والمؤسسات الصغرى والمتوسطة في 15 سبتمبر 2005، وتغريمها بقيمة ثلاثة ملايين ومائتي ألف دولار (2.3 مليون دولار) بعنوان الالتزامات بالأشغال غير المنجزة على رخصة البحث.كما قررت إسقاط كافة حقوق المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية وشركة "أتوق صحراء المحدودة" في رخصة البحث عن المحروقات التي تعرف برخصة "جنوب رمادة". ويحتم على هذه الشركة أن تُعيد المساحات التي تغطيها الرخصة الملغاة بمقتضى هذا القرار إلى حالتها الأصلية طبقا للتشريع والتراتيب الجاري بها العمل والمقاييس والاتفاقيات الدولية المصادق عليها من قبل الدولة التونسية.وصدرت هذه القرارات بالرائد الرسمي للجمهورية في عدده الصادر الثلاثاء 23 نوفمبر 2021"...
هذا الخبر الذي نشرته وسائل إعلام محلية وعالمية، وجاب صفحات التواصل الاجتماعي، تم تصويره على أنه انتصار لقضايا الشعب، وبداية حقيقية لاستعادة الثروات المنهوبة، بل راحت الصفحات الموالية للرئيس قيس سعيد تصور الأمر على أنه انطلاق رسمي في مسار تأميم الثروات وإعلان حرب على الشركات الناهبة للثروة، في حين تحدثت بعض الصفحات عن محاولة لإنقاذ هذه الشركة البريطانية "أتوغ" وإخراجها من الحقول ذات المردودية الضعيفة بأخف الأضرار. فما هي صحة استهداف هذه الشركة ومسؤوليها خاصة وأن هناك تقارير رسمية تثبت تورطها في الفساد الطاقي؟ وهل هي بداية إعلان حرب على النفوذ البريطاني في تونس خدمة لمصالح فرنسا، أم أن هذا يتنزل بدوره في إطار شعبوية مفرطة قد تنتهي بالجلوس والتحاور مع رموز الفساد الطاقي في تونس؟
*****
من يقف وراء شركة "أتوغ"؟
بداية لا بد من الإشارة إلى أن شركة ATOG البريطانية، ليست شركة من جنس الشركات البترولية العالمية المعروفة على غرار شال (بريتش غاز سابقا) وبتروفاك، إنما هي شركة حديثة، أنشئت من قبل الإنجليز في تونس في 22 مارس 2019، برأس مال يُعادل جنيه إسترليني واحد، بغرض اقتناء أسهم شركات أخرى في هذا البلد، وقد تعددت التقارير التي تتحدث عن هذه الشركة من كونها واجهة للفساد المنظم في مجال الطاقة، نذكر من بينها:
أولا: تقرير الصحفي ماهر زيد، نائب رئيس لجنة الأمن والدفاع بالبرلمان، بعنوان: "يوسف الشاهد، ومهدي بن عبد الله، النفط والمال ونهب الأوطان". وهو تقرير تفصلي حول هذه الشركة التي بيّن فيها ماهر زيد بأن من يقوم فعليا بالعمليات المالية لهذه الشركة الناشئة، هي شركة متعددة الجنسيات تدعى Trafigura وهي متورطة مع شركة أمنية "إسرائيلية" في جرائم حرب جنوب السودان، ومتورطة في جرائم بيئة وفضائح فساد ورشاوى عبر العالم.
ثانيا: تقرير الصحفي وائل ونيفي الذي نشره موقع "الكتبية" وهو تقرير خطير تحدث فيه عن الدور المثير لرئيس غرفة التجارة التونسية البريطانية والمدير السابق في شركة "شال" والقيادي في حزب تحيا تونس "مهدي بن عبد الله" الذي أصبح مستشارا في شركة "أتوغ" البريطانية.
سحب رخص البحث: ما وراء الستار؟
تعددت الإجتماعات طيلة الأشهر الماضية، بين رموز الدويلة التونسية المتآكلة وممثلي الشركة التونسية البريطانية للغاز والنفط ATOG والتي كانت قد اقتنت جميع سندات محروقات شركة "مادكوانرجي" المتواجدة بالجنوب التونسي على غرار إمتيازي الاستغلال "يير بن ترتر" و"آدم" ورخصتي البحث "جنوب رمادة" و"جناين الوسطى" في إطار عقد مقاسمة مع المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية والتي تتمتع أيضا بحقوق والتزامات رخصة البحث برج الخضراء، بالإضافة إلى امتيازي استغلال بخليج الحمامات "كوسوموس" و "ياسمين". وهي رخص غير قانونية لشركة متورطة في أكبر قضايا فساد مالي في تاريخ تونس.
وقد كانت هذه الإجتماعات تتم بحضور المدير التنفيذي للشركة James Berwick، ورئيس مجلس إدارة الشركة مهدي بن عبد الله (رئيس غرفة التجارة التونسية البريطانية) والمقيم العام البريطاني "إدوارد أوكدن"، وكان المشيشي ووزيرته سلوى الصغير لا يخرجان عما يسطره لهما الأنجليز، تماما كما فعل يوسف الشاهد ووزيره الفرياني في وقت سابق.
أما الغاية من الاجتماعات فهي تمديد الرخص لصالح هذه الشركة البريطانية التي أنشئت كبديل عن شركتي بتروفاك وشال (بريتش غاز سابقا) بغرض امتصاص ثروات الجنوب التونسي بشكل "قانوني".
اليوم، ودون سابق إنذار، صدر قرار من وزيرة الصناعة والطاقة والمناجم يتعلق بإلغاء رخصة البحث عن المحروقات التي تُعرف برخصة 'جنوب رمادة. كما صدر قرار آخر بإلغاء رخصة البحث عن المحروقات التي تُعرف برخصة 'جناين الوسطى'. هذا مع تغريم الشركة المستغلّة للرخصة (أتوغ) بمبلغ 3.2 مليون دولار لفائدة الدولة التونسية.
هذه القرارات تمثل في الحقيقة صفعة قوية للوبي البريطاني في تونس، بقيادة مهدي بن عبد الله، إذا ما تمت إحالة ملفات هذه الشركة على القضاء ومحاسبة كافة المتورطين، أو العودة إلى فتح ملف حقل "ميسكار" الذي أهدي مجانا لبريطانيا في عهد بن علي، وكان مهدي بن عبد الله نفسه شاهدا على عمليات النهب المنظم للثورة الغاز الطبيعي تحت غطاء قانوني، ضمن منصبه كمدير العلاقات الخارجية في شركة بريتش غاز.
ولكن يبدو أن حكام اليوم، أعجز من التجرأ على فتح الملفات الكبرى، إلا من باب المزايدات السياسية الرخيصة والشعبوية المقيتة، ولذلك مخطئ من يظن أن إلغاء رخص البحث لهذه الشركة يتنزل في إطار بداية تأميم الثروات، على فرضية أن التأميم هو الحل ! (انظر خريطة رخص البحث الممنوحة لهذه الشركة البريطانية).
والدليل الساطع على ذلك، هو تمديد رخص البحث لأربع امتيازات استغلال، اثنان منها لنفس هذه الشركة البريطانية "أتوغ". (عبير وبشرى في برج الخضراء).
حيث صادق محمد بوسعيد، وزير الصناعة والطاقة والمناجم بالنيابة على مجموعة من امتيازات الاستغلال لعدد من الآبار البترولية وهي على التوالي:
- امتيازاستغلال "عبير" وفقا لرخصة البحث تحت عنوان "برج الخضراء".
- امتيازاستغلال حقل "شلبية" وفقا لرخصة البحث تحت عنوان "جناين الجنوب".
- امتيازاستغلال حقل "سيدي مرزوق" وفقا لرخصة البحث تحت عنوان "الزعفران".
- امتيازاستغلال حقل "بشرى" وفقا لرخصة البحث تحت عنوان "برج الخضراء".
الأكثر من ذلك، فقد كان لوزير الاقتصاد والتخطيط في حكومة نجلاء بودن، السيد سمير سعيّد لقاء برؤساء الغرف التجارية المشتركة، لبحث سبل مزيد تحسين مناخ الاستثمار والأعمال، وذلك يوم الثلاثاء 23 نوفمبر 2021، أي في نفس يوم صدور قرار وزيرة الصناعة والطاقة والمناجم في الرائد الرسمي.
المفاجئ في هذه الجلسة، هو حضور رجل الإنجليز ومهندس الحكومات مهدي بن عبد الله في هذا الاجتماع بوصفه عضوا في غرفة التجارة والصناعة المشتركة، تماما مثلما تعود في جميع الحكومات السابقة منذ اندلاع شرارة الثورة في تونس، ما يعني أن الانجليز ماضون في استعادة كامل نفوذهم.
أما الوزير، فقد أشاد بدور الغرفة المشتركة التي أنشأتها بريطانيا في تونس سنة 2018، وبدورها في إعداد برنامج للإنعاش الاقتصادي سيتضمن إجراءات عاجلة وعملية لتنشيط الاقتصاد ورؤية استراتيجية في أفق 2035 وكذلك المخطط التنموي للفترة القادمة في إطار تشاركي مع كافة الأطراف المعنية، وهو ما يتيح الفرصة لمجلس الغرف المشتركة لتقديم مقترحات عملية في جانب تحسين مناخ الاستثمار والأعمال.
هذا يعني أن ملف الطاقة، ليس سوى ورقة ضغط بيد بريطانيا المستميتة في الدفاع عن نفوذها في تونس، وأن ثرواتنا المنهوبة، صارت محل مساومة بين قوى الاستعمار، والأصل أن تكون ضمن الملكيات العامة لأبناء هذا البلد، فعن أي سيادة طاقية يتحدث المنتشون بتحول 25 جويلية "المبارك"؟
هذه الجلسة، كافية لوحدها بأن تفند كل دعوات رفض الحوار مع الفساد والفاسدين والحيتان الكبرى التي أطلقها الرئيس قيس سعيد، فالطرف البريطاني لا يزال على طاولة الحوار، ويحضر الجلسات الرسمية لحكومة الرئيس ويتفاوض نيابة عن أسياده، فهل مازال الرئيس قادرا على رفع لواء مكافحة الفساد بعد هذه الفضيحة؟
ثم أما آن لأهل القوة والمنعة والمخلصين في قيادات الأمن والجيش أن يسحبوا البساط من تحت أقدام المتلاعبين بثروات البلد لصالح الجهات الاستعمارية وأن يكشفوا حقيقة ملف الإرهاب وتداخله مع ملف الطاقة، بدل أن يضعوا جنودنا البواسل مجرد حرس وعسس للشركات الأجنبية الناهبة؟
اللهم عجل لنا بخلافة راشدة على منهاج النبوة، تنهي مسار تحكم الاستعمار بثرواتنا بل برقابنا.